الخميس، 9 فبراير 2012

الأمريكيون" يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"!

الأمريكيون" يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"!: الأمريكيون" يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"!

علي بن عبدالمحسن المطيري


بسم الله الرحمن الرحيم


وصلت الطائرة إلى مطار نيويورك, نزل عبده وخطواته تسابق نهم شوقه إلى بلاد الحرية, فعبده رجل مثقف! ويدعو في بلاده المسلمة إلى تلك الحرية وينافح عنها بقلمه وفكره، يحارب من حاربها ويناصر من ناصرها ، ولا يطيق أن يتعرض أحد لحريته, وزيارته لبلد الحرية أمريكا حلم عظيم قد تحقق!

اصطف عبده مع الركاب لإجراءات الوصول, بقي أمامه شخص واحد, شرد فكره قليلا بعدما خطفت أنظاره تلك الشقراء الفاتنة! التي تختم جوازات القادمين, وبدأ بممارسة هواية يحبها, وبينما هو غارق في إجراء مسابقة لملكة جمال عاملات المطار, إذا بصوت مفاجئ يهتف نحوه بنبرة حادة! قطعت عليه تلك التأملات الشقراء: "سيدي أرجو عدم مجاوزة الخط الأحمر!" ارتعد عبده (وغض بصره) وتلعثم قليلا! فقالت له: "أعني الخط الذي عند قدمك أرجو عدم تجاوزه حتى أدعوك" فارتسمت على عبده بسمة خجل واضطراب، ثم رجع قليلا إلى الوراء.

أنهى عبده إجراءات الدخول, وذهب متجها إلى صالة استلام الأمتعة, كانت اللوحات الإرشادية واضحة تبين له طريقه بسلاسة، وأُعجب بذلك كثيرا,ووجد في طريقه مقهى فابتاع منه القهوة, ومتجرا ابتاع منه السجائر, ثم أكمل طريقه إلى صالة الأمتعة، وقد شدته كثيرا تلك الابتسامات العفوية التي أطلقها في وجهه عاملوا المقهى والمتجر, ورجل النظافة, ورجل الأمن, وكل من مر به من الأمريكيين, فقال : "إنه الإسلام أراه أمامي! وفي بلادي مسلمون بلا إسلام!".

فلما وصل إلى الصالة جلس ينتظر قدوم أمتعته, ثم أخذ نفسا عميقا يتنفس فيه هواء الحرية, وأخرج لفافته فأشعلها , فإذا بامرأة تحمل طفلها الصغير في الكرسي المقابل تصرخ في وجهه! , وإذا بكل من حوله ينظرون إليه نظرة "استنكار" و "إنكار", اختفت تلك الابتسامات الأمريكية فجأة, وتحولت إلى نظرات حادة وحواجب معقدة وأوداج منتفخة, فتدارك عبده الموقف,ورمى باللفافة مسرعا وداسها بقدمه قائلا بارتباك وخجل كبير " سوري سوري آي آم سوري" ثم أشاروا بغضب إلى غرفة مغلقة ضيقة في زاوية الصالة، مخصصة لمن يحب أن يتنفس هذا الداء "بحرية"،

لم ينته المشهد بعد, فلا زالت الأنظار غاضبة تجاهه, والكلمات ترمي به, إلا أنه هذه المرة لم يفهم السبب؟ فهو مثقف ولكن لغته الإنجليزية "لك عليها" ، فأشار الرجل ذو الشيبة البيضاء الذي بجانبه إلى سيجارته التي ألقاها في الأرض , ثم أشار إلى سلة المهملات! ففهم عبده! وقام وذلة موقفه تكسو وجهه، فحمل بيده سيجارته التي داسها بقدمه ثم رماها في سلة المهملات، بعد أن أطره الأمريكيون على الحق أطرا!

أخذ عبده أمتعته واتجه مسرعا يريد الخروج من المطار وقد كرهت نفسه تلك المواقف, إلا أنه بعد تفكر بسيط حمل كل ذلك محملا إيجابيا وقال : "نعم إنه النظام, إنهم قوم يحترمون أنظمتهم، لقد أصابوا وأخطأت", وبعدما هدأت نفسه تذكر أنه جائع ،فاسترشد عن منطقة المطاعم فأرشدوه بابتسامة!

كانت الخيارات أمامه كثيرة, ففكر قليلا ثم قال: "الأكل متشابه, سأجري مسابقة جديدة بين البائعات وأختار المطعم ذالبائعة الأجمل!ولعلي هذه المرة أحظى بصورة تذكارية معها" فوقع الاختيار ،واتجه نحو الفائزة، فوجد المجال متسعا أمامه, فأقبل إليها مبتسما لتقديم طلبه، فإذا بصوت عجوز مهترٍ يزجره: " يا هذا ! لا تكن وقحا!" فارتبك عبده ثانية!, ثم أكملت قائلة: "كن محترما وانتظم معنا في آخر الصف", فالتفت يمينا فإذا بصف عمودي عند كاشير الطلب, وأغلب من فيه ينظر إليه نظرة ازدراء واحتقار لعمله البعيد عن الأدب! فما كان منه إلا أن عاد إلى آخر الصف منصاعا للمنكرين!

وبعد استلام طلبه، تناول طعامه وفي ذهنه جلسة نقاش حادة يحاول فيها فهم هذا التذبذب العجيب عندهم، بين الابتسامة والتعبيس, والتلطف والغلظة!

خرج عبده من المطار وقد علل لكل ما حصل بأنه مختص بهذا المطار الدولي! ففيه كل الجنسيات والتوجهات والديانات، إنه لا يمثل أمريكا!، وليس إلا أن يخرج منه فيرفرف بأجنحة الحرية! فانتظر سيارة الأجرة ثم ركب معه, فقال للسائق :" أقرب فندق ماريوت لو سمحت!", لكن السائق لم يتحرك, وبقي واقفا، فسأله عبده مستغربا: "مالك لا تتحرك؟" فقال له السائق " سيدي اربط حزام الأمان إنه قانوننا!" اهـ.

عبده هنا أيها السادة شخصية وهمية، ولكن هذه المواقف تتكرر بشكل يومي في تلك البلاد وأمثالها،

إن ما حصل لعبده المثقف لا يخرج عن كونه أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر! ولكن بمعناه اللغوي المحظ، أو باصطلاح البشرية عامة،

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا المعنى لا يمكن أن يستقيم مجتمع أو تقوم دولة أو ينتظم شارع بدونه! وتتفق كل العقول على قبوله ، ويقوم به كل أحد، وإنما الاختلاف بين القائمين به هو في معيار المعروف والمنكر، أو مصدر الحكم على كون هذا الفعل أو ذاك من المعروف أم من المنكر،

ففي أمريكا على سبيل المثال مع كونها دولة مجرمة وظالمة، ومنحلة دينيا وأخلاقيا، إلا أنه من الإنصاف أن يقال عنها بأنها دولة نظامية في الداخل، وأهلها يقدسون هذا النظام،أكثر من تقديس عبده لدينه، فكان نظامهم هذا هو معيار أمرهم ونهيهم ، لذلك لما جاءهم صاحبنا عبده الذي لم يعتد أن ينتظم في الصفوف ويحترمها، واعتاد أن يدخن كيف يشاء ومتى شاء وحيث يشاء، وله الحرية في ربط حزامه أو تركه، فما إن حصل منه فعل نشاز عن معروفهم كان الآمرون له بالمعروف والناهون عن المنكر بالمرصاد!

فلا يوجد على أرض الواقع حرية كاملة، لذلك كانت صدمة عبده قوية جدا لما رأى أن حريته قد قُيدت، وفي بلاد الحرية! وكان المقيدون لها عامة وخاصة!

وبمثل ذلك تستقيم الأمور المطلوبة، ولا يمكن لدولة أن يستقر بها النظام كما هو في مثالنا الأمريكي لو أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في نظامهم كانوا من سلطة الدولة فقط! وإلا لاحتاجوا إلى آلاف الموظفين لكل مكان عام مهمتهم على سبيل المثال نهي المدخن عن التدخين في غير مكانه! ولكن لما عرف الناس النظام واحترموه وقدروه أصبح كل واحد منهم يأمر به وينهى من خالفه، فمن رأى منهم المنكر أنكره ولم يجامل! حتى سائق الأجرة البسيط أمره بالمعروف وألزمه بذلك إلزاما!

وبقدر استشعار المرئ شناعة المنكر الذي أمامه وتقديره، ينهى عنه بما يتناسب مع ذلك، ففي كل حادثة يكون تصرف مناسب لها، فليست الشدة دائما ملازمة للأمر والإنكار، ولا البسمة كذلك، وهذا مما صدم صاحبنا عبده أيضا في بلد الحرية، فلما كان تدخينه في غير مكانه المخصص منكرا متعديَ الضرر إلى الغير بسمومه ورائحته الكريهة، وكذلك لما كان تقدمه للطلب على الجميع ظلم لهم لوجود المصطفين قبله ينتظرون دورهم لوقت طويل, كان نهيهم له بشكل شديد وبوجوه متمعرة لا تعرف الابتسامة! بينما ترْكه لربط حزام الأمان يعتبر أثره الأكبر على الشخص نفسه, فكان أمر السائق له بربطه بلغة لطيفة محترمة.

ومراتب الإنكار هذه نمارسها كلنا في حياتنا اليومية, ولو تأمل الوالد أو الوالدة أفعالهم في بيتهم على سبيل المثال، لوجدوا أنهم يأمرون أبناءهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر في كل يوم,بحسب قوانين المنزل والعائلة, وتارة ينصح الوالد ولده بأسلوب لطيف رحيم , وتارة يوبخه بشدة وبوجه عبوس متجعد! ولربما ارتفعت الأصوات أيضا, ولوجد أنه أحيانا قد يكون ما فعله ابنه بالإمكان غظ الطرف عنه فأنكره بقلبه فقط, وتاره وجّهه بلسانه, وتارة أخرى احتاج إلى تدخله بيده وإجباره, وجل هذه الأمور تكون عادة في أمور أخلاقية أو دنيوية بحتة كالدراسة ومتطلباتها وتقصير الأبناء فيها ونحو ذلك, ولا يمكن أن يستنكر أحد هذه الأفعال، فهي ضروريات لا تقوم البيوت والتربية بدونها، ولا يمكن للوالدين الاكتفاء دائما بالابتسامة واللطف في أمرهم ونهيهم ولا باختيار الشدة أبدا, وإنما وضع الشيء في موضعه.

بمثل هذه الأمثلة البسيطة يسهل علينا تصور معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إجمالا, ونجد أن كل أهل الدنيا يقومون به ويرفعون لواءه, حكومات ومحكومين, على مستوى البلد كله أو العائلة, أو الشركة التجارية أوالمدرسة التعليمية وهلم جرا, بل حتى صاحبنا عبده, يأمر بالمعروف عنده!، وينكر ما خالفه!، وإن كان حقيقة صنيع أمثاله أمر بالمنكر ونهي عن المعروف, كما قال تعالى في المنافقين : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

فحقيقة هذه الصرخات والحملات المسعورة التي يشنها أعداء الفضيلة على هذه الشعيرة العظيمة لا تقصد أصل المبدأ فكل الناس تقيمه, وإنما حقيقة الحرب على معيار هذا المبدأ وكل أحد يريد تطبيق معياره!

وإننا معشر المسلمين لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, وإن معيارنا الذي يميزنا عن غيرنا لهو مستمد ممن خلقنا وأوجدنا, الذي قال عن نفسه عز وجل : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟! , فمفهومنا الإسلامي للمعروف هو كل ما عرفته النفوس وقبلته شرعا! والمنكر ما أنكرته وكرهته شرعاً,

فأي معيار أعظم وأنفع وأحق بالاعتبار من معيار بارينا عز وجل وهو الأعلم بالأنفع والأصلح والأكمل لنا؟

إنه معيار رباني كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,لا بشري قاصر يعرف معاشرة العشيقات وينكر تعدد الزوجات! ولا من دين خرافي يعرف عبادة البقر ويُنكر أكلها! أو معيار شهوانيين يعبدون حرية لا يجدونها متحققة حتى في بلدها المزعومة,

فأي تلك المعايير أحق بالاعتبار ؟

أتطبيق أنظمة دنيانا أو إدارة بيوتنا أولى بتعاون الجميع على إقامتها أم دين الله عز وجل؟ أنقبل بتمعر الوجوه والأخذ على يد السفيه وأطره على الحق أطرا عندما تكون في أمور الدنيا الفانية ثم ننكرها عندما تكون عند انتهاك حرمات الله تعالى ؟ مابال أنفسنا تمارس هذه الإزدواجية في الأحكام والموازين؟!

إن أمتنا الإسلامية لم تنل الخيرية على الناس إلا بهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبهذا المفهوم الإسلامي العظيم ,كما قال عز من قائل : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)

وما لُعنت بنوا إسرائيل إلا بتركه بهذا المفهوم : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)

وقال صلوات الله وسلامه عليه : "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " [رواه الترمذي وحسنه],

فمن ناصر هذه الشعيرة وذب عن أهلها لهو مستحق بالانتماء لهذه الأمة ولخيريتها, ومن حاربها وحارب أهلها إنما يسعى حقيقة إلى لَعْنِها! فمن أي الفريقين أنت؟



- تم الإرسال باستخدام شريط أدوات Google

ليست هناك تعليقات: